انتقِ حرفك!

يأسِرُنيّ الأدب بكافّة صورهِ، في الفعل والأمر والطلب وحتى السؤال!

قدِم عُمر بن الخطاب رضي اللهُ عنه في وقت مُتأخر من الليل على أمّ كانت قد اشعلت نارًا لتطهوَ طعامًا يُسكتُ جوع صغارها، فلما رآها الفاروق ذهب إليها ليستفسر عن سبب إشعال النار في هذا الوقت المتأخر قائلًا:" السلام عليكم يا أهل الضوء" ولم يقل يا أهل النار، حيثُ لم يُسمَي النار نارًا حرصًا منهُ رضي الله عنه بأن لا ينسب النار لهم، في تجلٍ مُذهل لرقّة العبارة وسموّ الأخلاق.


وهذانِ أحفادِ رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحسن والحسين" رضي الله عنهما قد دخلوا المسجد على مُسنّ كان لا يُحسنُ الوضوء، ومن أدبهم أنهما لم يقولا له افعل هذا وأترك ذاك، بل عمِدوا لأن يخاطبونه بكُل أدب قائلين ما رأيك أن تكون حكمًا بيننا فيمن يُحسن فينا الوضوء؟ فشرِعا رضيّ الله عنهما في الوضوء حتى انتهيا منه وقد وصلت الرسالة للرجل المُسنّ عندما قال بل أنكما تُحسنان الوضوء أكثر مني، وصلت الرسالة بأعلى أساليب الأدب ووفق التربية والضوابط المُحمّديّة!


أما خالي إبراهيم -رحمه الله- فقد تعلّمت منه شيئًا لا زلتُ أمارسه في حياتي حتى يومنا هذا، وهو التلطّفُ مع الآخرين في انتقاء الكلمة ورد الفعل وقضاء الحاجة ورد الفاقة.


أذكُر مرةً بأن عاملًا -كان يعمل عنده- من الجنسية الهندية أعدّ أحد الأطباق التقليدية لديهم في آنية أضنُّ أنها لم تُغسل نيفًا من الزمن، فلما دخل خالي على هذا العامل استبشر وهلّت أساريره فرحًا بدخولنا عليه حتى يكسِبُ فينا معروفًا بالأكل من العشاء الذي انتهى من إعداده للتوّ، فما كان من خالي إلا أن تبسّم ضاحكًا وأخذ من يده الصحن وشرع في الأكل وكأنه قد أكل ثمرةً من ثِمار الجنة، مِمّا سمعت من مديح ووصف للون الطعام ورائحته وطعمه!


خالي هُنا نظر بعين الأدب والتعاطف، نظر لجوهر الموقف ولم ينظر لأصل المشكلة. مضينا من عند العامل عبدالقادر وكأنني أرى خالي أمامي الآن يتحسّسُ فاهُ من شدّة الحرارة، إلا أنه لم يطري ذلك للعامل جبرًا لخاطره!


عُمر بن الخطاب والحسن والحسين رضوان الله عليهم جميعًا وخالي بو سامي عظماء، كتبوا سيرتهم في صفحات التاريخ ورحلوا، ولا زلنا ننهل من سيرتهم الأدب وحُسنِ السلوك!


أما الصورة الأخرى من صور الأدب وحُسن المعشر هي أن تُشرك نفسك في البحث عن حل لمشاكل الآخرين ما استطعت لذلك سبيلًا. دعني أسردُ لك قصة رئيسنا السابق بإيجاز، قام أحد الزملاء بخطأ بدائي جدًا أثناء العمل بسبب الإهمال أو النسيان أيًا كان، وقد رأيتُ الخوف يتنططُ في عينيه خوفًا من ردة فعل رئيسنا عندما يعلمُ بذلك الخطأ.


ما إن قِدم رئيس القسم وشاهد الخطأ، إلا وقد أنفجر ضاحكًا من الخطأ وبدأ معنا يبحث عن حل للمشكلة بدلًا من سؤالنا من فعل هذا وترك ذاك، وإنيّ والله أراها صورةً من أعلى صور الأدب وكسب قلوب الناس!


مع تسارعُ الزمن، وانتشارُ الجهل، وصعوبةِ الحياة، أعتقد يا صديقي بأن هذه التفاصيل الصغيرة هي من تجعلنا نستمر في الحياة، هي الدافع لنا، فعندما تُخطأ وترى فُلانًا يبتسم ويأخذ بيدك لحلّ المشكلة، عندما يُجبَر خاطرك بمديح ما صنعت يديك، عندما ترى من حولك ينتقي ألطف العبارات في الحديثِ معك فإني أرى في ذلك جبرًا كبيرًا وسبيلًا لمكابدة الحياة!


أحرص عليها يا صديقي وأنقُلها وعلّمها لصغارك وأحفادك كما تُعلّمهم الحرف ألف وقصة الراعي والذئب!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شكرًا عبدالعزيز!

النجاح مشروع وليس هدف!