النوستالجيا!


رُبما وقعت عينيك يومًا على صورة من الماضي، أو شممت عطر والدك المُفضل، أو حتى شاهدت حلقة من برنامجك القديم تسببت بتحريك مشاعر الحنين لديك!

الحقيقة أننا جميعًا نحِّنُ إلى الماضي بدرجةٍ نعتقد بأن تلك الأيام هي أفضل ما مرّ وسيمُر في حياتنا، نتذكر رائحة منزلنا القديم، طبخ أمهاتنا اللذيذ وكلمات آبائنا الحانية وحتى صفوف مدرستنا الابتدائية.

وعندما يطرح أحدهم سؤالًا عن أفضل الأيام التي عشناها، فإنّ أول ما يتبادر إلى أذهاننا هي أيام الطفولة.

ولأصدقك القول يا صديقي، بأن الدموع تكاد تُغرق حروف مقالي هذا وأنا أتذكرُ عطر خالي إبراهيم، تسريحةُ شعره، هيبة صوته عند دخول المنزل ودفئ حضنه عند عودته من السفر!

وإن كان الحنين إلى الماضي قد يتسبب في بعض الحزن على ما فات، إلا أنه يُعتبر من الأشياء الإيجابية والتي تدفع الإنسان نحو الحياة، فقد قرأتُ ذات مرة بأن الحنين إلى الماضي أو كما تُدعى 'النوستالجيا' هي آلية دفاع يستخدمها العقل لطرد الأفكار السلبية وتحسين الحالة النفسية للشخص.

ورُبما تلاحظ بأن مُتلازمة النوستالجيا تكون في أوجّها عند كبار السن وذلك بسبب شعورهم بالوحدة حينًا أو بسبب تغيّر بعض عاداتهم في أحيانٍ أخرى، و رُبما تصل ذروتها عند فقدان شخص عزيز، أو حتى عندما تسير الحياة بطريقة غير تلك التي نُريدها، وهي ردة فعل طبيعية لعقل الإنسان للتغلب على مشاعره السيئة ومُحاربة الإكتئاب كما يقترح بعض علماء النفس.

أنا وأنت والجميع نحتفظ بذكريات جميلة من تلك السنين، ونستمتع بالحديث عنها مع من يُذكرنا بها ويُقلّبُ المشاعر نحوها.

أذكر أنني في فترةٍ ما، كنتُ أذهب إلى بيت جدتي، وكانت -في المُعتاد- لا تلقي بالًا للأحاديث التي نقولها، إلى أن أتت الفترة التي حاولت أن أداعب النوستالجيا لديها، كنتُ أسألها سؤالًا عند زيارتي لها عن ماذا كانوا يفعلون في صغرهم، فتبدأ تشرح لي بكل شغف وحُب عن تلك الأيام، تصف الشوارع والبيوت، تمتدح طيبة الناس في ذلك الزمان وتتذكر بإخلاص مدى الكرم والقناعة التي كانوا يعيشون بها، حتى ظننتُ مرةً بأنها تعيش في مدينة أفلاطون الفاضلة! كُل ذلك والابتسامة لا تُفارقها.

والحقيقة أن الحنين لتلك الأيام الخالية رُبما يعود إلى أن عقولنا لا تحتفظ إلا بالذكريات الجميلة فقط، فعقل جدتي لم يتذكر سنوات الفقر التي مرّت بهم، ومواسم الأوبئة التي فقدوا خلالها الكثير من أحبائِهم.

أعتقد بأنه ثمّة علاقةٌ طردية بين العُمر والحنين، فكُلما تقدمنا في العُمر زاد اشتياقُنا للماضي، حتى أننا قد نحن لبعض الأيام الصعبة أحيانًا، فمن لم يتوق لامتحانات الثانوية العامة مثلًا؟! بل ومن المفارقات اللطيفه هي أنني خلال كتابتي لهذا المقال، كان صديقي عبدالله يُحدثني عن مدى اشتياقه لأيام الحجر المنزلي المصاحب لتفشي جائحة كورونا في عام ٢٠٢٠، وكيف كان يجتمع مع عائلته عِشاء كُل يوم للشواء وتناول كعكة الليمون ولعب 'الكيرم' وحتى سيل الطبخات الفاشلة التي أعدّها!

ختامًا، عليك أن تُدرك يا صديقي بأن الأيام تمضي وتنتهي، وأن الأمس الذي ستشتاقُ إليه هو اليوم الذي تعيشه، جميعنا نحنُّ للماضي، نشتاق لرائحة آبائنا وعناقهم وتقبيلهم، نحِنُّ لمنزلنا القديم ولدفئه وحنانه، بل وحتى لبعض الأصدقاء اللذين لم نعد نتواصل معهم لسببٍ أو آخر، ولكن يجب ألّا يجعلك ذلك تتوقف عن الحياة، عن التعرف على أصدقاء جُدد وخوض تجارب مختلفة، وتؤمن تمامًا بأن الأيام القادمة ستحمل بين طيّاتها ذكريات ستمضي ثم تحِنُّ لجمالها فهكذا علّمتنا الحياة دائمًا.


١٠ يناير ٢٠٢١

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ثُمّ ماذا ؟

وباء كورونا ما بين المبالغة والواقع!

شعرتي البيضاء!